الهاشميون والقدس

ارتبط الهاشميون تاريخياً بعقد شرعي وأخلاقي مع مكة المكرمة والمقدسات الإسلامية، فحفظوا لها مكانتها، ونأوا بها عن خصومات السياسة، وكذلك كان حالهم مع القدس الشريف، أولى القبلتين، متلازماً مع تأكيد تبنيهم لرسالتهم التي ناضلوا من أجلها، وهي حرية الشعوب والحفاظ على كرامة الأمة.

ومع قيام الدولة الأردنية، استُكملت في ظل الولاية الهاشمية مسيرة الحفاظ على المقدسات في مدينة القدس الشريف.

رعاية المقدسات أولوية هاشمية أردنية

وقّع جلالة الملك عبدالله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس اتفاقاً تاريخياً في عمّان يوم 31 آذار 2013، أُعيد فيه التأكيدُ أن جلالة الملك هو صاحب الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس الشريف، وأن له الحقَّ في بذل جميع الجهود القانونية للحفاظ عليها، خصوصاً المسجد الأقصى، المعرَّف في هذه الاتفاقية على أنه "كامل الحرم القدسي الشريف".

وللقدس عند الهاشميين مكانة كبيرة نظراً لاشتمالها على أهم المقدسات الإسلامية وأَجلّها قدراً. ففيها الحرم القدسي الشريف الذي يحوي مسجدَين وأضرحة لعدد كبير من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفيها تراثٌ معماريّ إسلاميّ عريق من المدارس والسبل والزوايا والأسواق والمكتبات.

أما الركن الآخر من أركان الحرم الشريف، فهو المسجد الأقصى الذي أُسّس في أيام الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، وأقيمت بعد ذلك قبة الصخرة إلى جانبه، والتي أتمّ بناءَها الخليفةُ الأموي عبد الملك بن مروان سنة 691م، فمنها عرج النبي محمد، صلّى الله عليه وسلّم، إلى السموات العُلى، وتعدّ أحد أبرز معالم المعجزة الخالدة للرسول في رحلة الإسراء والمعراج.

الاعمار الهاشمي الأول

تصدّى الهاشميون لمزاعم اليهود الصهيونية في القدس، والتي مثّلت تهديداً مباشراً للمدينة العربية وتراثها الحضاري.

وفي عام 1922 أُسّس في القدس المجلسُ الإسلامي الأعلى، وهو منظمة إسلامية غير حكومية، للحفاظ على تراث القدس الشريف، وبادر المجلس إلى جمع الأموال اللازمة لترميم قبة الصخرة.

وحين قام وفدٌ من المجلس برئاسة الحاج أمين الحسيني، بزيارةٍ لشريف مكّة الحسين بن علي في الحجاز عام 1924، وأطلعه على المخاطر التي يتعرض لها المسجد الأقصى، لبّى الشريف الحسين نداء أهل القدس، وتبرّع بحوالي 50 ألف ليرة ذهبية لإعمار المسجد الأقصى ومساجد أخرى في فلسطين، ليشكّل هذا المبلغُ أساسَ المال الإسلامي لإعمار المقدسات.

وأسهمت عمليةُ الترميم التي باركها الشريف الحسين بن علي، بصمود مرافق المسجد الأقصى حين ضرب المنطقةَ زلزالٌ عنيف في عام 1927.

لقد عبّرت الاستجابة السريعة التي أبداها الشريف الحسين لنداء أهل القدس، عن وعيه والتزامه بقضايا الأمة، ووفاءً لهذا العطاء طلب أهالي القدس وأعيانها دفنَ الشريف الحسين، طيب الله ثراه، في الرواق الغربي للحرم الشريف في حزيران 1931، تأكيداً على مكانته وتقديراً لجهوده في إنقاذ المؤسسات الإسلامية في القدس.

الملك المؤسس والقدس

"ليس الفلسطينيون إلا مثل الشجر؛ كلّما قُلِّم نبت"، هذا ما قاله جلالة الملك عبد الله الأول، طيّب الله ثراه، خلال لقائه "ونستون تشرشل" في القدس في 21 آذار 1921، رافضاً إجابة طلب "تشرشل" حول وعد بلفور، ومصرّاً على جعل أمر فلسطين بيد أهلها.

وامتلك جلالته، الذي تولى الحكم في شرق الأردن أميراً ممثلاً لمسؤوليات والده، رؤية استشرافية للنهوض بواقع المنطقة ومستقبلها، وظل موقفه ثابتاً تجاه فلسطين طوال فترة الانتداب، خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، إذ تمسّك بضرورة إخراج فلسطين من وعد بلفور، وفي الوقت نفسه حملَ حلمَ الشعوب العربية وحلم أبيه وأخيه الملك فيصل بإقامة دولة سوريا الكبرى للعرب.

وفي عهد الملك المؤسس كان مسار الأحداث صعباً وحرجاً بغيرِ ما تشتهي أحلام العرب، فمع إعلان بريطانيا في 15 أيار 1948 قرار الجلاء عن فلسطين وتحويل مسألتها إلى الأمم المتحدة، كانت إسرائيل تعلن قيام دولتها في فلسطين.

وكان جلالته يدعو إلى العقلانية في التعامل مع إرادة المجتمع الدولي، وأن يدرك العرب قوة الخصوم ومخططاتهم، وأن يعملوا على تجنيب المنطقة حروباً لا تُعرف نتائجها وليسوا مستعدّين لها، ولكن أفكاره كانت تجابَهُ باتهامات مختلفة، وسار العرب في طريق الحرب التي كانت نتيجتها فصول المأساة المستمرة إلى يومنا هذا.

ونتيجة لإعلان إسرائيل قيام دولتها، بدأ العرب حربهم عليها عام 1948، وشاركت قواتُ الجيش العربي الأردني في هذه الحرب لإنقاذ القدس وبقية الأراضي الفلسطينية، لكن الحرب انتهت بهزيمة العرب وإلحاق أضرار كبيرة بالحرم الشريف في القدس، ولم يكن من جلالة الملك المؤسس إلا أنْ بادر بإطلاق دعوة لترميم محراب زكريا وإعادة ترميم المباني المحيطة التي أصابتها أضرارٌ هيكلية.

ولم تقتصر عناية جلالته على المقدسات الإسلامية، فقد عمل شخصياً في إخماد حريق كاد يدمّر كنيسة القيامة في عام 1949، وكان طيلة فترة حكمه (1921-1951) سادناً وحارساً للمقدسات المسيحية في القدس.

الاعمار الهاشمي الثاني

ما إن تولّى جلالة الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، سلطاته الدستورية في 2 أيار 1953، حتى صدرت توجيهاته إلى الحكومة بترميم قبة الصخرة التي أخذت في فقدان بريقها بفعل عوامل الطقس والزمن، وبعد أن أخذت المياهُ تتسرب إلى الداخل.

وفي عام 1954 أمر جلالته بتشكيل لجنة بموجب قانون خاص لإعمار المقدسات الإسلامية في الحرم القدسي الشريف تحت الرعاية الهاشمية، من منطلق المسؤولية التاريخية للهاشميين تجاه المقدسات.

وتَتابع الاهتمام بالقدس ومقدساتها في عام 1956، ثم في عام 1959 الذي بدأ فيه الترميم الثاني الذي موّله الأردن إلى جانب دعمٍ قدمته بعض الدول الإسلامية، واستمر الترميم الثاني حتى 6 آب 1964، واشتمل على:

  • إعمار المسجد الأقصى المبارك، وترميم جدرانه الخارجية الحجرية، وتركيب أعمدة رخامية لأربعة أروقة في الناحية الشرقية منه، وتركيب نوافذ من الزجاج الملوّن، وترميم الأسقف والجدران الداخلية والخارجية.
  • إعمار قبة الصخرة المشرفة، وتركيب قبة خارجية من الألمنيوم ذهبيّ اللون، وتركيب رخام للجدران الداخلية والخارجية، وإعادة ترميم الفسيفساء فيها وكتابة الآيات القرآنية.

وحظي الاحتفاء بانتهاء الإعمار الهاشمي الثاني، الذي أقيم في الحرم القدسي الشريف يوم 6 تموز 1964، برعاية جلالة الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، والذي ألقى خطاباً في الاحتفال، بيّن فيه مكانة القدس لدى الهاشميين، مشدداً على ضرورة تكاتف المسلمين لاستعادتها. وقال في ذلك الخطاب: "إننا ونحن نغتبط اليوم إذ نمد أبصارنا من خلالكم فنرى الملايين من العرب والمسلمين في آسيا وإفريقيا وقد اجتمعت من حول فلسطين هذه الساعة، نحب أن نذكّر بأن إعمار مسجد الصخرة المشرفة إنْ بدأ فوق أرض المسجد وفي حدودها الضيقة، فإن إنقاذ الصخرة والحفاظ على مسجدها وصون قبّتها تنتهي كلها هناك، في الأرض السليبة، في الأرض العربية الحبيبة، وفي استرداد حقوقنا فيها كاملة غير منقوصة".

الاعمار الهاشمي الثالث

تعرّض المسجد الأقصى في 21 آب 1969 إلى حادثة أليمة عندما اقتحمه أحدُ اليهود المتديّنين المتطرفين، وأشعل النار فيه، وأدّى إلى تدمير معظم أجزائه.

ومن بين أهم الأجزاء التي أصابها الضرر بسبب الحريق: منبر صلاح الدين، الذي أحضره من حلب القائدُ المسلم صلاح الدين الأيوبي الذي حرّر المدينة من الصليبيين عام 1187م، ومسجد عمر الموجود في الزاوية الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى، ومحراب زكريا، ومقام الأربعين، والمحراب الرئيسي للمسجد، والقبة الخشبية الداخلية، ونوافذ المسجد، والجدار الجنوبي. كما تعرّض السجاد الذي يغطي أرضَ المسجد إلى الحريق.

وإثر ذلك، أصدر جلالة الملك الحسين بن طلال، طيّب الله ثراه، أوامره بإعادة إعمار المسجد الأقصى، فأعيد المسجد الأقصى إلى حالته السابقة قبل الحريق، وتم استبدال ألواح نحاسية مذهَّبة محْكمة الإغلاق بألواح الألمنيوم القديمة لقبة الصخرة المشرفة، كما شمل الإعمارُ مناطقَ أخرى في الحرم الشريف والقدس، ومنها: قبة السلسلة، وباب الرحمة، وجامع المدرسة الأرغونية، ومكتبة المسجد الأقصى، والقبة النحوية، وسوق القطانين، والمتحف الإسلامي، وسبيل قايتباي.

وبعد الانتهاء من إعمار المسجد الأقصى، وجدَ جلالته أن لجنة الإعمار تعاني من نقصٍ مالي كبير، لا سيما أن تنفيذ التصفيح النحاسيّ لقبة الصخرة يتطلب كلفة مرتفعة، مما حدا بجلالته إلى التبرع بمبلغ من المال للجنة الإعمار حتى تستطيع القيام بأعمالها، وجاء في رسالته إلى رئيس لجنة الإعمار بتاريخ 11 شباط 1992:

"إن ما تم إنجازه حتى الآن في اتجاه البدء بعملية إعادة الترميم والإعمار يبعث فينا جميعاً الرضا والاعتزاز، وإزاء استكمال الدراسات وطرح العطاءات المتعلّقة بهذه العملية، فإنه ليسعدنا أن ننقل إليكم تبرعنا الشخصي مقدّماً لهذا العمل العظيم باسم أسرتي الهاشمية سليلة آل البيت وحاملة رسالته. وإذ علمنا منكم أنَّ ما هو متوفر لديكم هو مبلغ مليون ومائتي ألف دينار أردني، فإنني أضيف لهذا المبلغ ما مقداره 8.249.000 دولار تبرعاً شخصياً مني ومن أسرتي الهاشمية".

ولم يقتصر الاهتمام الهاشمي في القدس على تعمير الأماكن الإسلامية المقدسة، فقد شمل أيضاً إنشاء الكليات والمدارس الدينية ومراكز حفظ التراث، ومنها:

  • كلية الدعوة وأصول الدين في القدس، وأنشئت عام 1978.
  • كلية العلوم الإسلامية في القدس، وأنشئت عام 1975.
  • كلية العلوم الإسلامية في قلقيلية، وأنشئت عام 1978.
  • ثانوية الأقصى الشرعية، وأنشئت عام 1958.
  • المدرسة الشرعية في جنين، وأنشئت عام 1975.
  • المدرسة الشرعية في الخليل، وأنشئت عام 1962. 
  • المدرسة الشرعية في نابلس، وأنشئت عام 1962. 
  • قسم الآثار الإسلامية بالقدس، وأنشئ عام 1977.
  • قسم إحياء التراث الإسلامي بالقدس، وأنشئ عام 1978.

الاعمار الهاشمي الرابع

أضحت المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس جزءاً لا يتجزأ من كُتب التكليف السامي للحكومات الأردنية ومن برامج عمل هذه الحكومات في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني.

وواصل جلالته التأكيد على ضرورة الاهتمام بهذه المقدسات، والعناية بمرافقها، والتعهّد بحمايتها. وجسّد اهتمامُ جلالته بالمسجد الأقصى استمرارية هاشمية في رعاية مدينة القدس ومقدساتها لما لها من مكانة ومنزلة في سائر الديانات السماوية، وتَمثّل هذا النهج بتشكيل لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة بموجب قانون، حفاظاً على المقدسات والمعالم الإسلامية لتبقى قائمة ببهائها وجمالها ومتانتها.

وأولت اللجنة عنايتها بالمسجد الأقصى المبارك وما يشتمل عليه من مساجد وقباب ومحاريب وربط ومساطب وغيرها من المعالم الحضارية، وأجرت أعمالَ الصيانة بشكل متواصل، وأزالت آثارَ الحريق الذي جاوزَ أكثر من ثلث مساحة المسجد، إضافة إلى إعمار مسجد قبة الصخرة المشرفة الذي تم تشييده خلال الفترة (66-72هـ).

وشملت مشاريع الإعمار في المسجد الأقصى في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني ما يلي:

  • أولاً: منبر المسجد الأقصى المبارك (منبر صلاح الدين):

تشرّف جلالة الملك عبدالله الثاني بوضع اللوحة الزخرفية الأولى على جسم المنبر في 1 كانون الأول 2002. وتصدّر العملُ في عملية التصنيع اهتمامَه ومتابعته المستمرة، ليعود المنبر على صورته الحقيقية المميزة ببالغ الحسن والدقة والإتقان، وكما أراد له جلالة الملك الحسين بن طلال، طيّب الله ثراه، عندما أبدى توجيهاته بإعادة صنع منبر صلاح الدين الأيوبي في 28 آب 1993.

  • ثانياً: الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك.
  • ثالثاً: الحائط الشرقي للمسجد الأقصى المبارك.
  • رابعاً: مشروع نظام قضبان الشدّ والربط لجدران المصلَّى المرواني.
  • خامساً: نظام الإنذار وإطفاء الحريق في المسجد الأقصى المبارك.
  • سادساً: البنى والمرافق التحتية.
  • سابعاً: قبّة الصخرة المشرفة.

وشملت الرعاية الهاشمية في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني، ترميم الأعمال الفنية الزخرفية في مرافق قبة الصخرة المشرفة، والتي تعدّ من كنوز الفن الإسلامي في العصر الأموي. كما شملت إعادة الرخام الداخلي لجدران القبة.

  • ثامناً: مهد عيسى عليه السلام.
  • تاسعاً: مشاريع الإعمار المقترح تنفيذها.

وتُواصل الجهات الحكومية المسؤولة العملَ لإتمام عمليات التحديث والترميم التي أمر بها جلالة الملك عبدالله الثاني، والتخطيط لتنفيذ عدد من المشاريع المستقبلية مثل: مشروع الإنارة، وشبكة الهاتف، وتطوير الصوتيات المركزية، ومشروع المئذنة الخامسة للمسجد الأقصى المبارك.

وفي اتفاق تاريخي وقّعه في عمّان جلالةُ الملك عبدالله الثاني والرئيسُ الفلسطيني محمود عباس في 31 آذار 2013، أُعيد التأكيد على أن جلالة الملك هو صاحب الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس الشريف، وأن له الحقّ في بذل جميع الجهود القانونية للحفاظ عليها، خصوصاً المسجد الأقصى، المعرَّف في تلك الاتفاقية على أنه "كامل الحرم القدسي الشريف".

  • عاشراً: ترميم القبر المقدس

في 4 نيسان 2016، وبمكرمة ملكية سامية، تبرع جلالة الملك عبد الله الثاني، وعلى نفقته الخاصة، لترميم القبر المقدس في كنيسة القيامة بالقدس. وأبلغ الديوانُ الملكي الهاشمي البطريركيةَ الأورشليمية في القدس بمكرمة جلالته، في رسالة خطّية موجّهة إلى غبطة البطريرك كيريوس ثيوفيلوس الثالث، بطريرك المدينة المقدسة وسائر أعمال الأردن وفلسطين.