حل الدولتين انتصار لإنسانيتنا المشتركة

١٤ تشرين أول ٢٠٢٣

بقلم جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين
صحيفة الواشنطن بوست

منذ ما يزيد عن شهر، انقسم العالم تجاه الحرب على غزة، وتفاقم هذا الانقسام بفعل حدة المشاعر التي تثيرها التبعات المستمرة لهذه الحرب. ودفعت السرديتان، الفلسطينية والإسرائيلية، المتظاهرين ووسائل الإعلام والأديان والشعوب والحكومات باتجاهات متضادة. وفي خضم كل ذلك، تحول الوضوح الأخلاقي الذي يجب أن نتشارك به كأساس لقيمنا الإنسانية إلى إرباك أخلاقي.
 
لنبدأ بالحقائق، فالحقيقة هي أن آلاف الضحايا على امتداد إسرائيل وغزة والضفة الغربية غالبيتهم من المدنيين. وفي 7 تشرين الأول، تعرضت إسرائيل لصدمة عميقة نتيجة لمقتل أكثر من ألف إسرائيلي، منهم نساء وأطفال، من فعل حماس. ومنذ ذلك الوقت، قتل القصف الإسرائيلي العشوائي على قطاع غزة أكثر من 11 ألف فلسطيني. آلاف من الأطفال قتلوا تحت ركام المنازل والمدارس والمستشفيات المدمرة في غزة. كيف يمكن قبول هذه الأفعال الوحشية والجرائم باسم إنسانيتنا المشتركة؟
 
إن المعاناة الإنسانية والتوتر العالمي اليوم يحتمان علينا احترام المبادئ الإنسانية قبل أن يفوت الأوان ونصل إلى نقطة الانهيار الأخلاقي.
 
تقع على عاتق القادة حول العالم مسؤولية مواجهة الحقيقة الكاملة لهذه الأزمة، مهما بلغت بشاعتها. فالطريق الوحيد لتغيير المسار الخطير الذي يتجه إليه عالمنا هو بالتركيز على الحقائق الفعلية التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة.
 
ويبدأ ذلك بالإقرار بأن واجبنا لا ينحصر فقط بفرض التدخل الإنساني وإنهاء هذه الحرب المروعة، بل بالاعتراف أيضا بأن المسار الحالي هو ليس مسارا ينتصر فيه أي طرف، وبالتأكيد ليس مسارا يتسم بالوضوح الأخلاقي.
 
لا أستطيع إلا أن أؤمن بأن الفلسطينيين والإسرائيليين يسعون للشيء ذاته، فهم ليسوا وحوشا، ولا يسعون للبؤس والموت. ومثل الإسرائيليين، للفلسطينيين الحق في العيش بكرامة وأمن واحترام في دولة مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة.
 
ومع ذلك، وعلى مدار حوالي عشرين عاما، قوضت الإجراءات الإسرائيلية الأحادية عملية السلام وضربت بعرض الحائط اتفاقية أوسلو التي وعدت بحل الدولتين للسلام والأمن لكلا الجانبين. فعوضا عن ذلك، تم تقسيم الأراضي الفلسطينية، خطوة بخطوة، وخلافا للقانون الدولي، إلى جيوب صغيرة منفصلة، وزادت إسرائيل "مستوطناتها" بثلاثة أضعاف على الأراضي التي اعترفت الاتفاقية بأنها ستكون جزءا من الدولة الفلسطينية، بينما يتم طرد المقدسيين من منازلهم، وتتعرض الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية للانتهاكات، ويزداد التضييق على المصلين. والآن، نزح 60 بالمئة من سكان غزة المحاصرين البالغ عددهم 2.3 مليون فلسطيني.
 
إن العائلات في غزة التي يتم قصفها وإخراجها من منازلها هي ضحايا هذا العقاب الجماعي، وليس لديها مكان تلجأ إليه؛ إذ لم يعد هناك مكان آمن بعد الآن، لا مستشفى ولا مدرسة ولا مبنى للأمم المتحدة. ولا شك بأن سكان غزة لن يتركوا منازلهم بسبب منشور أو رسالة نصية تأمرهم بذلك، فهم يعلمون أن المغادرة تعني فقدان الأمل والكرامة وفرصة العودة إلى أرضهم، فقد شهدوا حصول ذلك مع العديد من الفلسطينيين من قبلهم وأسلافهم طوال العقود السبعة الماضية من هذا الصراع.
 
والواقع أن خروج إسرائيل من غزة قبل ثمانية عشر عاما لم يكن مساهمة في حل الدولتين، بل كان بمثابة استباق وتقويض لأي حل من هذا القبيل. وقد ولّد هذا القرار الانقسام الدائم الذي حال دون قيام الدولة الفلسطينية من خلال عدم وجود شريك فلسطيني واضح.
 
إن القيادة الإسرائيلية التي لا ترغب في سلوك طريق السلام على أساس حل الدولتين، لن تكون قادرة على توفير الأمن الذي يحتاجه شعبها. ولن يستطيع الإسرائيليون الاستمرار في حياتهم كالمعتاد معتقدين بأن الحلول الأمنية وحدها ستضمن سلامتهم، بينما يعيش الفلسطينيون في البؤس والظلم، فمع غياب أفق سياسي، لن يكون هناك مستقبل من السلام للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.
 
هل هناك أي بدائل واقعية لحل الدولتين؟ من الصعب أن نتصور أي منها. فإن حل الدولة الواحدة من شأنه أن يجبر هوية إسرائيل على استيعاب الهويات الوطنية المتنافسة. وحل اللادولة من شأنه أن يحرم الفلسطينيين من حقوقهم وكرامتهم.
 
إذا استمر الوضع الراهن، فإن الأيام المقبلة ستدفع بحرب مستمرة من السرديات المتناقضة حول من يحق له أن يكره أكثر ويقتل أكثر. وستحاول الأجندات والأيديولوجيات السياسية الظلامية استغلال الدين، وسيتعمق التطرف والانتقام والاضطهاد، ليس في المنطقة فحسب، بل في جميع أنحاء العالم.
 
ما سيحدث في الفترة القادمة سيكون نقطة تحول للعالم كله. والأولوية هي بذل جهد دولي متضافر لتطوير بنية إقليمية للسلام والأمن والازدهار، مبنية أساسا على السلام الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل الدولتين.
 
على القادة الذين يتمتعون بحس المسؤولية العمل لتحقيق النتائج، بدءا من الآن. ولن يكون هذا العمل سهلا، لكنه ضروري. فليس هناك نصر في المذبحة التي نشهدها، ولن ينتصر أحد إلا إذا حصل الفلسطينيون على حقوقهم ودولتهم. وهذا فقط سيكون بمثابة نصر حقيقي للسلام، للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. وسيكون أيضا، أكثر من أي شيء، انتصارا لإنسانيتنا المشتركة.